يواكيم مبارك السريانيّ المارونيّ الأنطاكيّ اليونانيّ البيزنطيّ المسكونيّ
كتبت ندى عيد في جريدة النهار
قبل أن يجمع شهر تموز أوراقه في زمن يصيبنا بالذهول من الخيبات الاقتصاديّة والفشل السياسيّ وتراكم الأزمات، فلا نتذكر أننا ننتمي إلى وطن أنجب كبارًا في الفكر الإنسانيّ والروحيّ، على غرار رجل عالم، موسوعيّ المعرفة، منفتح القلب والعقل، اسمه يواكيم مبارك.
في شهر تموز من العام 1924 ولد يواكيم مبارك في كفرصغاب المشرفة على وادي القدّيسين (شمال لبنان). اتّخذ اسم يوسف اسطفان في الكهنوت في العام 1947 وانطلق في رسالته الكهنوتيّة المارونية من لبنان إلى العالم.
في نظرة سريعة إلى سيرة الأب مبارك الغنية نقرأ أنه درس في قريته العربيّة والسريانيّة والفرنسيّة، وأكمل في بيروت على الآباء اليسوعيين. نال شهادات دكتوراه في اللاهوت (1958)، والدراسات الإسلاميّة (1969)، وفي الآداب (1972)، وأصبح أستاذًا جامعيًا في فرنسا وبلجيكا. وفي شهر أيّار العام 1995 انتقل يواكيم مبارك إلى جوار ربّه تاركًا إرثًا أدبيًا ومعنويًا عالي الأهمية.
في أوائل شهر تموز الحالي، وفي الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته أعلنت الجامعة اليسوعيّة أنها أصبحت تملك أرشيف الأب مبارك ومكتبته، حيث أودعتها أسرة الأب مبارك جزءًا هامًا منهما منذ عشر سنوات، ثم تمّ نقل جزء آخر من فرنسا إلى بيروت مباشرة قبل أزمة كورونا، ما أخّر الإعلان عنها إلى شهر تموز. وسبق للأب أن اختار رئيس الجامعة البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ كوصي شرعي عليها، لا سيّما على محفوظاته الخاصة ومراسلاته الشخصيّة. خصّصت الجامعة من خلال مركز البحوث والمنشورات حول الشرق المسيحي CERPOC مساحة مستقلّة لهذا الإرث الفكري القيّم، لأرشفته بطريقة علميّة ووضعه في متناول الباحثين والطلاّب، سبق أن صدرت عن الجامعة غير أطروحة حول فكر مبارك.
الحفاظ على الأرشيف والمكتبة
"الجامعة جمعت الأرشيف في مكان واحد ويخضع الآن لترتيب علميّ وحفظ دقيق. كما تمّ الاتفاق مع IMEC معهد ذاكرة النشر المعاصر، ومؤسّسة يواكيم مبارك في فرنسا، على جمع كلّ الوثائق والمنشورات في بيروت لتكون منطلقًا لإحياء ذكراه على الصعيد الأكاديميّ والاجتماعي والوطني...، وأول ما سنقوم به بعد استكمال أعمال الأرشفة وجمع الأعمال التي تقوم بها الآنسة السي خوري، هو إعداد مؤتمر حول ذكرى الأب مبارك وفكره وتراثه، خصوصًا أن هدف الجامعة هو حفظ تراثه في بلاده وفي الجامعة اليسوعية بناء على رغبته"، بحسب الأب دكّاش.
...وعن العلاقة المميزة التي ربطت بين الرجلين يقول الأب دكّاش: "حين التقيت به في بيروت لم أكن دخلت الى الرهبنة اليسوعية (بين 1970 و1973 ما قبل الحرب الأهلية). في الفترة التي ازدهرت فيها محاضرات "الندوة اللبنانية" وكان من أبرز أعلامها في ذلك الوقت. كان صديقًا لمؤسسها ميشال أسمر ولجبران حايك صاحب جريدة "لسان الحال" حيث عملت كصحافي. كنتُ ألتقي به في مكاتب الجريدة (في محلّة ستاركو)، وفي كلّ لقاء كانت الأحاديث الثقافيّة و"المارونية" تأخذنا صوب التعمّق في الكلام على سياسة الكنيسة المارونيّة والأحزاب المسيحيّة وأزماتها، خصوصًا وأن مبارك كان يرى الحرب آتية لا محال، وأن الفوضى ستقع... وكان يحذر منها". "...حين جاء إلى بيروت قام باتصالات مع الجميع: مع الفلسطينيين، مع كمال جنبلاط، مع الأحزاب المسيحيّة، وأيضًا مع صديقه موسى الصدر والمطران جورج خضر، في محاولة لوضع حدٍّ لفوضى الحرب، وإيجاد الجسور بين الجميع للتلاقي على القواسم والأهداف المشتركة والعمل على أن ينفتح الواحد على الآخر".
يتابع الأب دكّاش: " كنت ألتقي به أيضًا في مجلس كنائس الشرق الأوسط، حيث كان يحلّ ضيفًا عليه، وكنت ناشطًا في المجلس، فألتقي به دائمًا في هذه النشاطات واللقاءات. فالأب مبارك المتجذّر في مارونيته كان مسكونيًا في رؤيته الجامعة للكنائس الشرقيّة وهدفه أن تلتقي في بوتقة انطاكيا التي أسسها القدّيس بطرس".
"...أما في فرنسا وخلال دراساتي للدكتوراه فكنّا نلتقي في كنيسة سيّدة لبنان... نتناول الغداء معنا بعد القداس، ونتحدّث مطولاً. توطدت العلاقة جيدًا بيننا. وحين جاء إلى بيروت وأعدّ الخماسيّة المارونيّة ("الحقل المارونيّ") ذكرني في مدخل الخماسيّة واعتبر أن الطريق الذي نسلكه هو الطريق الصحيح، لأن فيه بُعدًا عن الكنيسة وقربًا منها في الوقت نفسه. وتوطدت العلاقة أكثر فأكثر حين بدأ بإذن من البطريرك صفير التحضير للمجمع الماروني، وكنتُ معه في الهيئة العليا لإعداد المجمع لفترة طويلة، مشاركًا ومواظبًا، ومحركًا واستفدت كثيرًا من حضوري إلى جانبه".
اليسوعيون وماسينيون
تتلمذ الأب يواكيم مبارك فكريًا وروحيًا على يد لويس ماسينيون، المستشرق المميّز الفريد، كما يطلق عليه بعض الدارسين، نظرًا لانفتاحه على قضايا الشرق الأوسط والإسلام، والقضية الفلسطينية تحديدًا، وعلى مختلف القضايا الفكرية منها التصوّف والمتصوّفين المسلمين وعلى رأسهم الصوفي منصور الحلاّج الشهيد من القرن التاسع عشر.
عاون مبارك ماسينيون طيلة ربع قرن وأشرف على نشر بعض أعماله. وعن تأثّره به يقول الأب دكّاش " كان مبارك لامعًا عند اليسوعيين في كليّة اللاهوت (في الجامعة اليسوعيّة)، وهم شجعوه على الذهاب الى باريس ومتابعة دراسته، هناك تأثّر كثيرًا بماسينيون وسلك نهجه في معرفة الإسلام والحوار معه والتقرّب منه، وبواسطة ماسينيون الذي جمعته علاقة باليسوعيين في فرنسا كلويس جالابير وجوزف ماريشال، وقويت العلاقة بين مبارك واليسوعيين... وجمعته علاقة جيدة جدًا مع اللاهوتي الفرنسي الكبير جان دانييلو في الفترة الأخيرة، وكذلك مع الأب كولفنباخ اليسوعيّ، الذي كان يزوره في روما لبحث قضايا تتعلّق بمصير الكنيسة المارونية ومستقبلها".
خمسة محاور شغلة حياته
نذر الأب يواكيم مبارك حياته لقضايا كبرى شغلته، فكرّس حياته لها بحثًا وكتابة عملاً وسعيًا لإصلاحها، وأبرزها: إصلاح الكنيسة المارونية؛ الوحدة الإنطاكيّة؛ الحوار الإسلاميّ المسيحيّ؛ القضية الفلسطينيّة؛ والقضية اللبنانيّة.
"في جميعها كان صاحب الفكر الإنسانيّ الموحّد، الداعي إلى التمسّك بالإبراهيميّة كعنصر جامع بين الديانات التوحيديّة الثلاث، فهو صاحب فكر تفكيكيّ بالمعنى الإيجابيّ، مع فكر توليفي يجمع المتناقضات من دون أن يذيبها، بل إنه سعى إلى تأويلها والبحث عن المعنى الذي تفترضه. كان مريميًا في نظرته إلى المعلم يسوع، أي أنه لا يستطيع الفصل بين صليب المحبّة والتجلّي الإلهي في الابن يسوع".
مجمع مارونيّ لم يُعقد
يكمل الأب دكّاش: "برز الأب مبارك، رجلًا جامعًا لتناقضات، غير أن مهمته كانت في أن يكون رجل مصالحة من دون مساومة"، ومعروف عنه سعيه الدؤوب من أجل كنيسة مارونية قويّة متجذّرة بروحانيتها السريانيّة والانطاكيّة، بعيدة عن الطائفيّة والطائفيين، وقد عمل من أجل تحضير مجمع ماروني تأسيسيّ على غرار مجمع اللويزة أو المجمع الماروني الأول 1736 للقيام بإصلاحات كنسيّة وطقسيّة عميقة، وجَهِدَ مبارك مع فريق معه في التحضير له، لكنه لم يُعقد، واعتبر ذلك وكأنه الفشل الذريع لرسالته المارونيّة والكاثوليكيّة واللبنانيّة.
"...عملنا فترة طويلة، منذ بداية الثمانينات، في التحضير للمجمع المارونيّ، كان الأب مبارك في تلك الفترة في لبنان. وكان إلى جانبه كثيرون ومنهم من أصبح راعيًا المونسنيور منير خيرالله والأباتي قزي رحمه الله وغيرهما. بعد انتهاء الحرب في التسعينات كما هو معروف دعا البابا يوحنا بولس الثاني الى مجمع من أجل لبنان.
"الكاردينال الراحل نصرالله صفير تفاعل مع فكرة "مجمع من أجل لبنان"، وعمل من أجل حتى تكون الكنيسة الكاثوليكيّة هي الضامنة للبنان الجديد، وهي المؤسِّسة للمرحلة الجديدة.
"هنا اختلفت وجهات النظر، حتى وصل الاختلاف إلى الرؤيا المستقبليّة، إذ أراد يواكيم مبارك المجمع الماروني الثاني كمجمع اللويزة الأول الذي أسّس للكنيسة المارونية. لم يكن يريده مجمعًا بطريركيًا عاديًا لكن مجمع تأسيسيًا لمرحلة جديدة، ولكن عوض أن يكون مجمعًا تأسيسيًا أصبح مجمعًا معقودًا في الفاتيكان لا على أرض لبنان وفي اللويزة بالذات. شعر الأب مبارك أن هناك اختلافًا في وجهات النظر ورأى أن الدعوة الى المجمع كما هي تزيل حلمه بانعقاد المجمع الماروني الثانيّ وتدمّره. لم يشارك في السينودوس، انسحب كليًا وسلّم مفتاح مكتبه في بكركي وسافر إلى فرنسا".
وحدة الكنائس الشرقية
"...وعن حبّه للكنيسة الشرقية ووحدة الكنائس" اعتبر دكّاش أن " يواكيم مبارك حمل في قلبه وفكره قضية وحدة كنائس الشرق الأدنى والأوسط، فهو، على طراز الأنبياء، كان يرى العائلات الكنسية المختلفة تجتمع حول شخص بطرس، مؤسّس كنيسة انطاكية حيث لُقِّبَ أتباع يسوع المسيح بالمسيحيين للمرة الأولى. فخماسيته المارونية الشهيرة، وقد تجاوز عدد صفحاتها 3 آلاف، كانت مقدمة لخماسية ثانية في الميدان البيزنطي وثالثة في الميدان السرياني الأشمل. إلاّ أن هاتين الخماسيتين لم تريا النور وقد رحل الأب مبارك وبقي مشروعه طي الادراج!".
...وعن التزامه بالقضية الفلسطينيّة أوضح دكّاش (عمل معه عن قرب في هذه القضية) أنه حمل بوعي وجهاد القضية الفلسطينية، رافضًا التوطين في لبنان، ومدافعًا عن شعب أذلّه المنفى في المخيمات... كان المطالب بتحرير القدس من وصاية دين أو دولة معيّنة لتصبح المدينة القدسية المفتوحة لكل المذاهب والأديان خصوصًا الإبراهيميّة(المسيحيّة واليهوديّة والإسلام)، مثل مدينة السماء لكل البشر، ومثل الكنيسة الجامعة لكلّ الأبناء، مهما اختلفوا فتكون بالتالي كنيسة مقدسة.
الحوار الإسلامي المسيحي
تجلّى انفتاح الأب يواكيم مبارك أيضًا في مواقفه المتقدمة من: الحوار الإسلاميّ المسيحي، إلى الدور الذي لعبه في مشاركته كتابة النصوص المتعلقة بهذا الحوار خلال المجمع الفاتيكانيّ الثاني، ومواقفه التقدميّة والطليعية في هذا الحوار، وعمله على الخماسية الإسلامية المسيحيّة، وهو العارف بأمور الإسلام.
...يتذكّر الأب دكّاش كيف "تضامن مبارك مع الإمام موسى الصدر واعتصم وصام معه من أجل العدالة والسلام والتزم بالحوار المسيحي الإسلامي طريقًا لتهذيب النفس وتنقيتها أمسلمة أكانت أم مسيحية ورأى في ذلك الحوار طريقًا للحوار العالمي والسلام الكوني... وفصحًا جديدًا يرتقي بالبشرية إلى التجلي والرجاء والوحدة".
...وكشف البروفسور دكّاش أن الأب مبارك في سنواته الأخيرة وفي سعيه إلى التأصيل، توجّه نحو المناهل والمصادر الروحانية السريانية تاركًا مخطوطًا مؤلفًا من 1500 صفحة باللغة العربية. ويعمل دكّاش على تحقيقه وقد باشر بنشر أجزاء منه في مجلة "المشرق"، وشارف على الانتهاء من العمل عليه ليصدر قريبًا في كتاب.
يصعب اختصار الكلام على الأب مبارك، أو الإحاطة بفكره الشموليّ العميق والمتنوّع، فهو أشبه بأيقونة تختصر بخطوطها القليلة الكثير من الرموز والمعاني السامية.
Commentaires0
Veuillez vous connecter pour lire ou ajouter un commentaire
Articles suggérés